فصل: باب الخُلع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ باب الخُلع

 وسئل الشّيخ ـ رَحمَه اللّه تعالى‏:‏ ماهو الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة‏؟‏

فأجاب‏:‏

الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كان كل منهما مريدا لصاحبه، فهذا الخلع محدث في الإسلام‏.‏

وَقَالَ ـ رحمهُ اللّه‏:‏

إذا كانت مبغضة له مختارة لفراقه فإنها تفتدي نفسها منه، فترد إليه ما أخذته من الصداق، وتبريه مما في ذمته، ويخلعها، كما في الكتاب والسنة واتفق عليه الأئمة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رَحِمَه اللّه ـ عن امرأة مبغضة لزوجها طلبت الانخلاع منه، وقالت له‏:‏ إن لم تفارقني وإلا قتلت نفسي، فأكرهه الولي على الفرقة، وتزوجت غيره، وقد طلبها الأول، وقال‏:‏ إنه فارقها مكرها، وهي لا تريد إلا الثاني‏؟‏

/فأجاب‏:‏

إن كان الزوج الأول أكره على الفرقة بحق ـ مثل أن يكون مقصراً في واجباتها، أو مضراً لها بغير حق من قول أو فعل كانت الفرقة صحيحة، والنكاح الثاني صحيحاً، وهي زوجة الثاني‏.‏ وإن كان أكره بالضرب أو الحبس وهو محسن لعشرتها حتىفارقها لم تقع الفرقة، بل إذا أبغضته وهو محسن إليها فإنه يطلب منه الفرقة من غير أن يلزم بذلك، فإن فعل والا أمرت المرأة بالصبر عليه إذا لم يكن ما يبيح الفسخ‏.‏

 وسئل ـ رَحمَه اللّه تعالى ـ عن رجل اتهم زوجته بفاحشة، بحيث أنه لم ير عندها ما ينكره الشرع إلا ادعي أنه أرسلها إلى عرس، ثم تجسس عليها فلم يجدها في العرس، فأنكرت ذلك، ثم إنه أتي إلى أوليائها وذكر لهم الواقعة، فاستدعوا بها لتقابل زوجها على ما ذكر، فامتنعت خوفا من الضرب، فخرجت إلى بيت خالها، ثم إن الزوج بعد ذلك جعل ذلك مستندا في إبطال حقها، وادعي أنها خرجت بغير إذنه‏:‏ فهل يكون ذلك مبطلا لحقها‏؟‏ والإنكار الذي أنكرته عليه يستوجب إنكاراً في الشرع‏؟‏

فأجاب‏:‏

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏، فلا يحل للرجل أن يعضل المرأة، بأن يمنعها ويضيق عليها / حتى تعطيه بعض الصداق، ولا أن يضربها لأجل ذلك، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها لتفتدي منه، وله أن يضربها‏.‏ هذا فيما بين الرجل وبين اللّه‏.‏

وأما أهل المرأة فيكشفون الحق مع من هو فيعينونه عليه، فإن تبين لهم أنها هي التي تعدت حدود اللّه وآذت الزوج في فراشه، فهي ظالمة متعدية، فلتفتد منه‏.‏ وإذا قال‏:‏ إنه أرسلها إلى عرس ولم تذهب إلى العرس فليسأل إلى أين ذهبت‏؟‏ فإن ذكر أنها ذهبت إلى قوم لا ريبة عندهم وصدقها أولئك القوم، أو قالوا‏:‏ لم تأت إلينا، وإلى العرس لم تذهب، كان هذا ريبة وبهذا يقوي قول الزوج‏.‏

وأما الجهاز الذي جاءت به من بيت أبيها فعليه أن يرده عليها بكل حال، وإن اصطلحوا فالصلح خير، ومتى تابت المرأة جاز لزوجها أن يمسكها ولا حرج في ذلك، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا لم يتفقا على رجوعها إليه فلتبرئه من الصداق، وليخلعها الزوج، فإن الخلع جائز بكتاب اللّه وسنة رسوله، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل شيخ الإِسلام ـ رَحمَه اللّه ـ عن ثيب بالغ لم يكن وليها إلا الحاكم، فزوجها الحاكم لعدم الأولياء ثم خالعها الزوج وبرأته من الصداق بغير إذن الحاكم‏:‏ فهل تصح المخالعة والإبراء‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كانت أهلا للتبرع جاز خلعها وإبراؤها بدون إذن الحاكم‏.‏

 وسئل ـ رَحمَه اللّه ـ عن امرأة قال لها زوجها‏:‏ إن أبرأتِني فأنت طالق‏.‏ فأبرأته‏.‏ ولم تكن تحت الحجر، ولا لها أب، ولا أخ‏.‏ ثم إنها ادعت أنها سفيهة لتسقط بذلك الإبراء‏.‏

فأجاب‏:‏

لا يبطل الإبراء بمجرد دعواها، ولو قامت بينة بأنها سفيهة ولم تكن تحت الحجر لم يبطل الإبراء بذلك، وإن كانت هي المتصرفة لنفسها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رَحمَه اللّه ـ عن امرأة أبرأت زوجها من جميع صداقها، ثم بعد ذلك أشهد الزوج على نفسه أنه طلق زوجته المذكورة على البراءة، وكانت البراءة تقدمت على ذلك‏:‏ فهل يصح الطلاق‏؟‏ وإذا وقع يقع رجعيا أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كانا قد تواطئا على أن توهبه الصداق وتبريه على أن يطلقها فأبرأته، ثم طلقها، كان ذلك طلاقا بائنا‏.‏ وكذلك لو قال لها‏:‏ أبرئيني وأنا أطلقك‏.‏ أو‏:‏ إن أبرأتني طلقتك‏.‏ ونحو ذلك من عبارات الخاصة والعامة التي يفهم منها أنه سأل الإبراء على أن يطلقها‏.‏ وأما إن كانت أبرأته براءة لا تتعلق بالطلاق، ثم طلقها بعد ذلك، فالطلاق رجعي، ولكن هل لها أن ترجع في الإبراء إذا كان يمكن لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا لأن يمسكها أو خوفا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك‏؟‏ فيه قولان هما روايتان عن أحمد‏.‏ وأما إذا كانت قد طابت نفسها بالإبراء مطلقا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منة ولا عوض، فهنا لا ترجع فيه بلا ريب‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رَحمَه اللّه تعالى ـ عن رجل قال لامرأته‏:‏ هذا ابن زوجك لا يدخل لي بيتا، ‏[‏قالت‏]‏‏:‏ فإنه ابني ربيته؛ فلما اشتكاه لأبيه قال للزوج‏:‏ إن أبرأتك امرأتك تطلقها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فأتي بها، فقال لها الزوج‏:‏ إن أبرأتني من كتابك، ومن الحجة التي لك على، فأنت طالق‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ وانفصلا، وطلع الزوج إلى بيت جيرانه، فقال‏:‏ هي طالق ثلاثا، ونزل إلى الشهود فسألوه كم طلقت‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثا على ما صدر منه‏:‏ فهل يقع عليه الطلاق الثلاث‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا كان إبراؤها على ما دل عليه سياق الكلام ليس مطلقا بل بشرط أن يطلقها بانت منه، ولم يقع بها بعد هذا طلاق، والشرط المتقدم على العقد كالشرط المقارن، والشرط العرفي كاللفظي‏.‏ وقول هذا الذي من جهتها له‏:‏ إن جاءت زوجتك وأبرأتك تطلقها‏؟‏ وقوله‏:‏ اشتراط عليه أنه يطلقها إذا أبرأته، ومجيئه بها بعد ذلك، وقوله‏:‏ أنت إن أبرأتني قالت‏:‏ نعم‏.‏ متنزل على ذلك، وهو أنه إذا أبرأته يطلقها، بحيث لو قالت‏:‏ أبرأته وامتنع لم يصح الإبراء، فإن هذا إيجاب وقبول في العرف، لما تقدم من الشروط ودلالة الحال، والتقدير‏:‏ أبرأتك بشرط أن تطلقني‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رَحمَه اللّه ـ عن رجل طلق زوجته طلقة رجعية، فلما حضر عند الشهود قال له بعضهم‏:‏ قل‏:‏ طلقتها على درهم‏.‏ فقال له ذلك، فلما فعل قالوا له‏:‏ قد ملكت نفسها فلا ترجع إليك إلا برضاها‏.‏ فإذا وقع المنع‏:‏ هل يسقط حقها مع غرره بذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا كان قد طلقها طلقة رجعية، ثم إن الشاهد قد لقنه أن يقول‏:‏ طلقها على درهم، فقال ذلك معتقداً أنه يقر بذلك الطلاق الأول لا ينشئ طلاقا آخر، لم يقع به غير الطلاق الأول، ويكون رجعيا لا بائنا وإذا ادعي عليه أنه قال ذلك القول الثاني إنشاءاً لطلاق آخر ثان، وقال‏:‏ إنما قلته إقراراً بالطلاق الأول، وليس ممن يعلم أن الطلاق بالعوض يبينها‏.‏ فالقول قوله مع يمينه، لا سيما وقرينة الحال تصدقه، فإن العادة جارية بأنه إذا طلقها ثم حضر عند الشهود فإنما حضر ليشهدوا عليه بما وقع من الطلاق‏.‏

/ وسئل ـ رَحمَه اللّه تعالى ـ عن الخلع‏:‏ هل هو طلاق محسوب من الثلاث‏؟‏ وهل يشترط كونه بغير لفظ الطلاق ونيته‏؟‏

فأجاب ـ رحمه اللّه تعالى‏:‏

هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين السلف والخلف، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأصحابه أنه فرقة بائنة وفسخ للنكاح، وليس من الطلاق الثلاث‏.‏ فلو خلعها عشر مرات كان له أن يتزوجها بعقد جديد قبل أن تنكح زوجاً غيره، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ واختاره طائفة من أصحابه ونصروه، وطائفة نصروه ولم يختاروه، وهذا قول جمهور فقهاء الحديث ـ كإسحاق ابن راهويه، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وابن خزيمة‏.‏ وهو ثابت عن ابن عباس وأصحابه ـ كطاووس، وعكرمة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث وهو قول كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي في قوله الآخر ويقال‏:‏ إنه الجديد، وهو الرواية الأخرى عن أحمد‏.‏ وينقل ذلك عن عمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، لكن ضعف أحمد وغيره من أئمة العلم بالحديث‏:‏ كابن المنذر، وابن خزيمة، والبيهقي وغيرهم النقل عن هؤلاء، ولم يصححوا إلا قول ابن عباس، إنه فسخ وليس بطلاق‏.‏ وأما الشافعي وغيره فقال‏:‏ لا نعرف حال من روي هذا عن عثمان‏:‏ هل هو ثقة أم ليس بثقة‏؟‏ فما صححوا ما نقل عن الصحابة، بل اعترفوا أنهم لا يعلمون صحته ‏.‏

/وما علمت أحداً من أهل العلم بالنقل صحح ما نقل عن الصحابة من أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث، بل أثبت ما في هذا عندهم ما نقل عن عثمان، وقد نقل عن عثمان بالإسناد الصحيح أنه أمر المختلعة أن تستبرأ بحيضة‏.‏ وقال‏:‏ لا عليك عدة‏.‏ وهذا يوجب أنه عنده فرقة بائنة، وليس بطلاق؛ إذ الطلاق بعد الدخول يوجب الاعتداد بثلاث قروء بنص القرآن واتفاق المسلمين، بخلاف الخلع، فإنه قد ثبت بالسنة وآثار الصحابة أن العدة فيها استبراء بحيضة، وهو مذهب إسحق، وابن المنذر، وغيرهما، وإحدى الروايتين عن أحمد‏.‏

وقد رد ابن عباس امرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة قبل أن تنكح زوجا غيره، وسأله إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص لما ولاه الزبير على اليمن عن هذه المسألة وقال له‏:‏ إن عامة طلاق أهل اليمن هو الفداء‏؟‏ فأجابه ابن عباس بأن الفداء ليس بطلاق، ولكن الناس غلطوا في اسمه‏.‏ واستدل ابن عباس بأن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتىتَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229، ، 230‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فقد ذكر اللّه ـ تعالى ـ الفدية بعد الطلاق مرتين، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وهذا يدخل في الفدية خصوصاً وغيرها عموماً، فلو كانت الفدية طلاقا، لكان الطلاق أربعآً‏.‏ وأحمد في المشهور عنه هو ومن تقدم اتبعوا ابن عباس‏.‏

/واختلف هؤلاء في المختلعة‏:‏ هل عليها عدة ثلاثة قروء أو تستبرأ بحيضة‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏:‏ أحدهما‏:‏ تستبرئ بحيضة، وهذا قول عثمان، وابن عباس؛ وابن عمر في آخر روايتيه، وهو قول غير واحد من السلف، ومذهب إسحاق، وابن المنذر وغيرهما، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن من وجوه حسنة، كما قد بينت طرقها في غير هذا الموضع‏.‏

وهذا مما احتج به من قال‏:‏ إنه ليس من الطلاق الثلاث، وقالوا‏:‏ لو كان منه لوجب فيه تربص ثلاث قروء بنص القرآن، واحتجوا به على ضعف من نقل عن عثمان، أنه جعلها طلقة بائنة؛ فإنه قد ثبت عنه بالإسناد المرضي أنه جعلها تستبرئ بحيضة، ولو كانت مطلقة لوجب عليها تربص ثلاثة قروء‏.‏ وإن قيل‏:‏ بل عثمان جعلها مطلقة تستبرئ بحيضة فهذا لم يقل به أحد من العلماء، فاتباع عثمان في الرواية الثابتة عنه التي يوافقه عليها ابن عباس، ويدل عليها الكتاب والسنة‏:‏ أولى من رواية راويها مجهول وهي رواية جمهان الأسلمي عنه أنه جعلها طلقة بائنة‏.‏ وأجود ما عند من جعلها طلقة بائنة من النقل عن الصحابة هو هذا النقل عن عثمان، وهو مع ضعفه قد ثبت عنه بالإسناد الصحيح ما يناقضه، فلا يمكن الجمع بينهما؛ لما في ذلك من خلاف النص والإجماع‏.‏

/وأما النقل عن علي، وابن مسعود فضعيف جداً، والنقل عن عمر مجمل لا دلالة فيه، وأما النقل عن ابن عباس أنه فرقة وليس بطلاق‏.‏ فمن أصح النقل الثابت باتفاق أهل العلم بالآثار، وهذا مما اعتضد به القائلون بأنه فسخ ـ كأحمد وغيره‏.‏

والذين اتبعوا ما نقل عن الصحابة من أنه طلقة بائنة من الفقهاء ظنوا تلك نقولا صحيحة؛ ولم يكن عندهم من نقد الآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها ما عند أحمد وأمثاله من أهل المعرفة بذلك، فصار هؤلاء يرون أن الذين خالفوا ابن عباس وأمثاله من الصحابة أجل منه وأكثر عدداً، ولم يعلموا أنه لم يثبت خلافه عن أحد من الصحابة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل‏)‏ وكان ما استنبطه في هذه المسألة من القرآن، واستدل به من السنة عن كمال فقهه في الدين وعلمه بالتأويل، وهو أكثر الصحابة فتيا‏.‏ قيل للإمام أحمد‏:‏ أي الصحابة أكثر فتياً‏؟‏ قال‏:‏ ابن عباس‏.‏ وهو أعلم وأفقه طبقة في الصحابة، وكان عمر بن الخطاب يدخله مع أكابر الصحابة ـ كعثمان، وعلي، وابن مسعود، ونحوهم ـ في الشوري ولم يكن عمر يفعل هذه بغيره من طبقته، وقال ابن مسعود لو أدرك ابن عباس أسناننا لما عشره منا أحد‏.‏ أي ما بلغ عشره‏.‏

والناقلون لهذه المسألة عنه أجل أصحابه، وأعلمهم بأقواله‏:‏ مثل طاووس، وعكرمة؛ فإن هذين كانا يدخلان عليه مع الخاصة، بخلاف عطاء، وعمرو بن دينار ونحوهما، فقد كانوا يدخلون عليه مع العامة‏.‏ ومعلوم أن خواص العالم / عندهم من علمه ما ليس عند غيرهم، كما عند خواص الصحابة ـ مثل الخلفاء الراشدين الأربعة، وابن مسعود، وعائشة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وغيرهم ـ من العلم ما ليس عند من ليس له مثلهم من الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

والمقصود بهذا‏:‏ أن كثيراً من الناس يظن أن ابن عباس خالفه في هذه المسألة كثير من الصحابة أو أكثرهم، ولا يعلمون أنه لم يثبت عن الصحابة إلا ما يوافق قوله، لا ما يناقضه‏.‏ وإن قدر أن بعضهم خالفه فالمرجع فيما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة‏.‏

قال هؤلاء‏:‏ والطلاق الذي جعله اللّه ثلاثا هو الطلاق الرجعي، وكل طلاق في القرآن في المدخول بها هو الطلاق الرجعي غير الطلقة الثالثة؛ ولذلك قال أحمد في أحد قوليه‏:‏ تدبرت القرآن، فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي‏.‏ قال هؤلاء‏:‏ فمن قسم الطلاق المحسوب من الثلاث إلى رجعي وبائن فقد خالف الكتاب والسنة، بل كل ما فيه بينونة فليس من الطلاق الثلاث، فإذا سمي طلاقا بائناً ولم يجعل من الثلاث، فهذا معني صحيح لا تنازع فيه‏.‏ قالوا‏:‏ ولو كان الخلع طلاقا لما جاز في الحيض؛ فإن اللّه حرم طلاق الحائض، وقد سلم لنا المنازعون أو أكثرهم أنه يجوز في الحيض، ولأن الحاجة داعية إليه في الحيض، قالوا‏:‏ واللّه ـ تعالى ـ إنما حرم المرأة بعد الطلقة الثالثة عقوبة للرجل لئلا يطلق لغير حاجة؛ فإن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة، والحاجة تندفع بثلاث مرات؛ ولهذا أبيحت الهجرة ثلاثا، والإحداد لغير موت الزوج ثلاثا، ومقام المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا‏.‏ والأصل في الهجرة ومقام المهاجر بمكة التحريم / ثم اختلف هؤلاء‏:‏ هل من شرط كونه فسخاً أن يكون بغير لفظ الطلاق ونيته‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لا بد أن يكون بغير لفظ الطلاق ونيته‏.‏ فمن خالع بلفظ الطلاق أو نواه، فهو من الطلاق الثلاث، وهذا قول أكثر المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، ثم قد يقول هؤلاء‏:‏ إذا عري عن صريح الطلاق ونيته فهو فسخ‏.‏ وقد يقولون‏:‏ إنه لا يكون فسخاً إلا إذا كان بلفظ الخلع‏.‏ والفسخ والمفاداة دون سائر الألفاظ، كلفظ الفراق، والسراح، والإبانة وغير ذلك من الألفاظ التي لا يفارق الرجل امرأته إلا بها، مع أن ابن عباس لم يسمه إلا فدية وفراقا وخلعا، وقال‏:‏ الخلع فراق، وليس بطلاق‏.‏ ولم يسمه ابن عباس فسخا، ولا جاء في الكتاب والسنة تسميته فسخا، فكيف يكون لفظ الفسخ صريحآً فيه دون لفظ الفراق‏؟‏ ‏!‏ وكذلك أحمد بن حنبل أكثر ما يسميه فرقة ليست بطلاق‏.‏ وقد يسميه فسخا أحيانا؛ لظهور هذا الاسم في عرف المتأخرين‏.‏

والثاني أنه إذا كان بغير لفظ الطلاق كلفظ الخلع والمفاداة والفسخ فهو فسخ، سواء نوي به الطلاق أو لم ينو‏.‏ وهذا الوجه ذكره غير واحد من أصحاب الشافعي وأحمد‏.‏

وعلى هذا القول‏:‏ فهل هو فسخ إذا عري عن صريح الطلاق بأي لفظ وقع من الألفاظ والكنايات‏؟‏ أو هو مختص بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة‏؟‏ على وجهين، كالوجهين على القول الأول‏.‏

/وهذا القول أشبه بأصولهما من الذي قبله؛ فإن اللفظ إذا كان صريحًا في باب ووجد معادًا فيه لم يكن كناية في غيره، ولهذا لو نوي بلفظ الظهار الطلاق لم يقع عند عامة العلماء، وعلى هذا دل الكتاب والسنة‏.‏ وكذلك عند أحمد‏:‏ لو نوي بلفظ الحرام الطلاق لم يقع؛ لأنه صريح في الظهار، لاسيما على أصل أحمد‏.‏ وألفاظ الخلع والفسخ والفدية مع العوض صريحة في الخلع فلا تكون كناية في الطلاق، فلا يقع بها الطلاق بحال، ولأن لفظ الخلع والمفاداة والفسخ والعوض إما أن تكون صريحة في الخلع، وصريحة في الطلاق، أو كناية فيهما، فإن قيل بالأول ـ وهو الصحيح ـ لم يقع بها الطلاق وإن نواه‏.‏ وإن قيل بالثاني لزم أن يكون لفظ الخلع والفسخ والمفاداة من صريح الطلاق، فيقع بها الطلاق، كما يقع بلفظ الطلاق عند التجرد، وهذا لم يقله أحد، ولم يعدها أحد من الصرائح‏.‏ فإن قيل‏:‏ هي مع العوض صريحة في الطلاق، قيل‏:‏ هذا باطل على أصل الشافعي؛ فإن ما ليس بصريح عنده لا يصير صريحًا بدخول العوض؛ ولهذا قال الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد‏:‏ إن النكاح لا ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج؛ لأن ما سوي ذلك كناية والكناية تفتقر إلى النية، والنية لا يمكن إلا بإشهاد عليها، والنكاح لابد فيه من الشهادة، فإذا قال‏:‏ ملكتكها بألف، وأعطيتكها بألف، ونحو ذلك، أو وهبتكها لم يجعل دخول العوض قرينة في كونه نكاحًا؛ لاحتمال تمليك الرقبة‏.‏ كذلك لفظ المفاداة يحتمل المفاداة من الأسر‏.‏ ولفظ الفسخ إن كان طلاقًا مع / العوض فهو طلاق بدون العوض، ولم يقل أحد من أصحاب الشافعي‏:‏ إنه صريح في الطلاق بدون العوض، بل غايته أن يكون كناية‏.‏ وهذا القول مع كونه أقرب من الأول؛ فهو ـ أيضًا ـ ضعيف‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنه فسخ بأي لفظ وقع، وليس من الطلاق الثلاث‏.‏ وأصحاب هذا القول لم يشترطوا لفظًا معينًا، ولا عدم نية الطلاق؛ وهذا هو المنقول عن ابن عباس وأصحابه، وهو المنقول عن أحمد بن حنبل وقدماء أصحابه في الخلوع بين لفظ ولفط، لا لفظ الطلاق ولا غيره، بل ألفاظهم صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان، أصرح من لفظ الطلاق في معناه الخالص‏.‏ وأما الشافعي فلم يقل عن أحد من السلف أنه فرق بين لفظ الطلاق وغيره، بل لما ذكر قول ابن عباس وغيره وأصحابه ذكر عن عكرمة أنه قال‏:‏ كل ما أجازه المال فليس بطلاق‏.‏ قال‏:‏ وأحسب من لم يجعله طلاقًا إنما يقول ذلك إذا لم يكن بلفظ الطلاق‏.‏

ومن هنا ذكر محمد بن نصر، والطحاوي ونحوهما‏:‏ أنهم لا يعلمون نزاعًا في الخلع بلفظ الطلاق‏.‏ومعلوم أن مثل هذا الظن لا ينقل به مذاهب السلف، ويعدل به عن ألفاظهم وعلمهم وأدلتهم البينة في التسوية بين جميع الألفاظ وأما أحمد فكلامه بين في أنه لا يعتبر لفظًا، ولا يفرق بين لفظ ولفظ، وهو متبع لابن عباس في هذا / القول وبه اقتدي‏.‏ وكان أحمد يقول‏:‏ إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام‏.‏ وإمامه في هذه المسألة هو ابن عباس، ونقله أحمد وغيره عن ابن عباس وأصحابه‏.‏ فتبين أن الاعتبار عندهم ببذل المرأة العوض، وطلبها الفرقة‏.‏ وقد كتبت ألفاظهم في هذا الباب في الكلام المبسوط‏.‏

وأيضًا، فقد روي البخاري في صحيحه، عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لثابت بن قيس بن شماس ـ وهو أول من خالع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت له‏:‏ لا أنقم عليه خلقًا ولا دينًا، ولكن أكره الكفر بعد في الإسلام، فذكرت أنها تبغضه‏.‏ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتردين عليه الحديقة‏؟‏‏)‏ فقالت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة‏)‏‏.‏

وابن عباس الذي يروي هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بحيضة استبراء‏.‏ وقال‏:‏ لا عدة عليك، وأفتي بأن طلاق أهل اليمن الذي يسمونه الفداء ليس من الطلاق الثلاث، مع أن إبراهيم بن سعد قال له‏:‏ عامة أهل اليمن الفداء، فقال له‏:‏ ليس الفداء بطلاق، وإنما هو فراق، ولكن الناس غلطوا في اسمه‏.‏ فأخبره السائل أن طلاقهم هو الفداء، وهذا ظاهر في أن ذلك يكون بلفظ الطلاق، وأدني أحواله أن يعم لفظ الطلاق وغيره، وابن عباس أطلق الجواب / وعمم، ولم يستثن الفداء بلفظ الطلاق ولا عين له لفظًا، مع علمه بأن وقوع ذلك بلفظ الطلاق أكثر منه بغيره، بل العامة لا تعرف لفظ الفسخ والخلع ونحو ذلك إن لم يعلمها ذلك معلم، ولا يفرقون بين لفظ ولفظ، بل كثير منهم إذا قيل له‏:‏ خالع امرأتك، طلقها بلا عوض، وقال‏:‏ قد خلعتها‏.‏ فلا يعرفون الفرق بين لفظ ولفظ إن لم يذكر لهم الغرض في أحد اللفظين‏.‏وأهل اليمن إلى اليوم تقول المرأة لزوجها‏:‏ طلقني‏.‏ فيقول لها‏:‏ ابذلي لي فتبذل له الصداق أو غيره فيطلقها‏.‏ فهذا عامة طلاقهم، وقد أفتاهم ابن عباس بأن هذا فدية وفراق وليس بطلاق‏.‏ ورد امرأة على زوجها بعد طلقتين وفداء مرة‏.‏ فهذا نقل ابن عباس وفتياه واستدلاله بالقرآن بما يوافق هذا القول‏.‏

وهذا كما أنه مقتضي نصوص أحمد وأصوله فهو مقتضي أصول الشرع، ونصوص الشارع؛ فإن الاعتبار في العقود بمقاصدهما ومعانيها، لا بألفاظها‏.‏ فإذا كان المقصود باللفظين واحدًا لم يجز اختلاف حكمهما‏.‏ ولو كان المعني الواحد إن شاء العبد جعله طلاقًا وإن شاء لم يجعله طلاقًا كان تلاعبًا وهذا باطل‏.‏

وقد أوردوا على هذا أن المعتقة تحته إذا خيرها زوجها فإن لها أن تطلق نفسها، ولها أن تفسخ النكاح لأجل عتقها‏.‏ قالوا‏:‏ فهي مخيرة بين الأمرين وكذلك الزوج مع العوض يملك إيقاع فسخ، ويملك إيقاع طلاق‏.‏ وهذا القياس ضعيف، فإن هذه إذا طلقت نفسها إنما يقع الطلاق رجعيًا، فتكون مخيرة بين / إيقاع فرقة بائنة، وبين إيقاع طلاق رجعي‏.‏ وهذا مستقيم، كما يخير الزوج بين أن يخلعها مفارقة فرقة بائنة، وبين أن يطلقها بلا عوض طلاقًا رجعيًا، وإنما المخالف للأصول أن يملك فرقة بائنة إن شاء جعلها فسخًا، وإن شاء جعلها طلاقًا، والمقصود في الموضعين واحد، وهو الفرقة البائنة، والأمر إليه في جعلها طلاقًا، أو غير طلاق، فهذا هو المنكر الذي يقتضي أن يكون العبد إن شاء جعل العقد الواحد طلاقًا، وإن شاء جعله غير طلاق، مع أن المقصود في الموضعين واحد‏.‏

وأيضًا، فالذي يرجع إلى العبد هو قصد الأفعال وغايتها، وأما الأحكام فإلى الشارع‏.‏ فالشارع يفرق بين حكم هذا الفعل وحكم هذا الفعل، لاختلاف المقصود بالفعلين‏.‏ فإذا كان مقصود الرجل بها واحداً لم يكن مخيرا في إثبات الحكم ونفيه، ومعلوم أن مقصود الفرقة واحد لا يختلف‏.‏

وأيضًا، فمعني الافتداء ثابت فيما إذا سألته أن يفارقها بعوض، والله علق حكم الخلع بمسمي الفدية، فحيث وجد هذا المعني فهو الخلع المذكور في كتاب الله تعالى‏.‏

وأيضًا، فإن الله جعل الرجعة من لوازم الطلاق في القرآن، فلم يذكر الله تعالى طلاق المدخول بها إلا وأثبت فيه الرجعة، فلو كان الافتداء طلاقا /لثبت فيه الرجعة وهذا يزيل معني الافتداء؛ إذ هو خلاف الإجماع، فإنا نعلم من قال‏:‏ إن الخلع المطلق يملك فيه العوض ويستحق فيه الرجعة‏.‏ لكن قال طائفة‏:‏ هو غير لازم، فإن شاء رد العوض وراجعها، وتنازع العلماء فيما إذا شرط الرجعة في العوض‏:‏ هل يصح‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن مالك‏.‏ وبطلان الجمع مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهو قول متأخرى أصحاب أحمد‏.‏ ثم من هؤلاء من يوجب العوض ويرد الرجعة‏.‏ ومنهم من يثبت الرجعة ويبطل العوض‏.‏ وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي، وليس عن أحمد في ذلك نص‏.‏ وقياس مذهب أحمد صحته بهذا الشرط، كما لو بذلت مالا على أن تملك أمرها‏.‏ فإنه نص على جواز ذلك، ولأن الأصل عنده جواز الشرط في العقود، إلا أن يقوم على فسادها دليل شرعي، وليس الشرط الفاسد عنده ما يخالف مقتضي العقد عند الطلاق، بل ما خالف مقصود الشارع وناقض حكمه، كاشتراط الولاء لغير المعتق، واشتراط البائع للوطء مع أن الملك للمشتري، ونحو ذلك‏.‏

وأيضًا، فالفرق بين لفظ ولفظ في الخلع قول محدث لم يعرف عن أحد من السلف‏:‏ لا الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم‏.‏ والشافعي ـ رضي الله عنه ـ لم ينقله عن أحد، بل ذكر‏:‏ أنه يحسب أن الصحابة يفرقون‏.‏ ومعلوم أن هذا ليس نقلا لقول أحد من السلف‏.‏ والشافعي ذكر هذا في أحكام القرآن‏.‏ ورجح فيه أن الخلع طلاق وليس بفسخ، فلم يجز هذا القول لما ظنه من تناقض أصحابه، وهو أنهم يجعلونه بلفظ طلاقاً بائناً من الثلاث، /وبلفظ ليس من الثلاث‏.‏ فلما ظنه من تناقضه عدل عن ترجيحه‏.‏ ولكن هذا التناقض لم ينقله لا هو، ولا أحد غيره عن أحد من السلف القائلين به ولا من اتبعه‏.‏ كأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه، وإنما قاله بعض المت أخرىن من أصحاب أحمد، لما وجدو غيرهم قد ذكروا الفرق فيه بين لفظ الطلاق وغيره، وذكر بعضهم كمحمد بن نصر والطحاوي‏:‏ أنهم لا يعلمون في ذلك نزاعاً، وإنما قاله بعض المت أخرىن من أصحاب أحمد، والمنقول عن السلف قاطبة‏:‏ إما جعل الخلع فرقة بائنة، وليس بطلاق‏.‏ وإما جعله طلاقاً‏.‏ وما رأيت في كلام أحـد منهم أنه فرق بين لفظ ولفظ، ولا اعتبر فيه عـدم نية الطلاق، بل قد يقولون كما يقول عكرمة‏:‏ كل ما أجازه المال فليس بطلاق، ونحو ذلك من العبارات، مما يبين أنهم اعتبروا مقصود العقد، لا لفظاً معيناً، والتفريق بين لفظ ولفظ مخالف للأصول والنصوص‏.‏ وببطلان هذا الفرق يستدل من يجعل الجميع طلاقاً، فيبطل القول الذي دل عليه الكتاب والسنة‏.‏ وهذا الفرق إذا قيل به كان من أعظم الحجج على فساد قول من جعله فسخاً؛ ولهذا عدل الشافعي ـ رضي الله عنه ـ عن ترجيح هذا القول، لما ظهر له أن أهله يفرقون‏.‏

وأيضًا، ففي السنن أن فيروز الديلمي أسلم وتحته أختان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏طلق أيتهما شئت‏)‏ قال‏:‏ فعمدت إلى أسبقهما صحبة ففارقتها‏.‏ وهو حديث حسن، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلق إحداهما، وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد فرقة بائنة، وليست / من الطلاق الثلاث، فدل ذلك على أن لفظ الطلاق قد تناول ما هو فسخ ليس من الثلاث‏.‏ ويدل على أن الذي أسلم وتحته أكثر من أربع إذا قال‏:‏ قد طلقت هذه، كان ذلك فرقة لها واختياراً لل أخرى، خلاف ما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ أنه إذا قال لإحداهما طلقها، كان ذلك اختياراً لها‏.‏ قالوا‏:‏ لأن الطلاق لا يكون إلا لزوجة فإن هذا القول مخالف للسنة والعقول؛ فإن المطلق للمرأة زاهد فيها، راغب عنها، فكيف يكون مختاراً لها، مريداً لبقائها‏؟‏‏!‏‏!‏ وإنما أوقعهم في مثل هذا ظنهم أن لفظ الطلاق لا يستعمل إلا فيما هو من الطلاق الثلاث، وهذا ظن فاسد مخالف للشرع واللغة وإجماع العلماء‏.‏

وأيضًا، فإن الطلاق لم يجعل الشارع له لفظا معينا، بل إذا وقع الطلاق بأي لفظ يحتمله وقع عند الصحابة والسلف وعامة العلماء لم ينازع في ذلك إلا بعض متأخرى الشيعة، والظاهرية‏.‏ ولا يعرف في ذلك خلاف عن السلف‏.‏ فإذا قال‏:‏ فارقتك، أو سرحتك، أو سيبتك، ونوى به الطلاق وقع، وكذلك سائر الكنايات‏.‏ فإذا أتي بهذه الكنايات مع العوض مثل أن تقول له‏:‏ سرحني، أو سيبني بألف، أو فارقني بألف، أو خلني بألف‏.‏ فأي فرق بين هذا وبين أن تقول‏:‏ فادني بألف، أو اخلعني بألف، أو افسخ نكاحي بألف‏.‏ وكذلك سائر ألفاظ الكنايات‏.‏ مع أن لفظ الخلع والفسخ إذا كان بغير عوض ونوى بهما الطلاق وقع الطلاق رجعياً، فهما من ألفاظ الكناية في الطلاق‏.‏ فأي فرق في ألفاظ الكنايات بين لفظ ولفظ‏؟‏‏!‏

/وقد اختلف العلماء في صحة الخلع بغير عوض على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ أحدهما‏:‏ كقول أبي حنيفة والشافعي، وهي اختيار أكثر أصحابه‏.‏ والثانية‏:‏ يصح، كالمشهور في مذهب مالك، وهي اختيار الخرقي‏.‏ وعلى هذا القول فلابد أن ينوى بلفظ الخلع الطلاق، ويقع به طلاق بائن لا يكون فسخاً على الروايتين، نص على ذلك أحمد - رحمه الله؛ فإنه لو أجاز أن يكون فسخاً بلا عوض لكان الرجل يملك فسخ النكاح ابتداءاً ولا يحسب ذلك عليه من الثلاث، وهذا لا يقوله أحد؛ فإنه لو جاز ذلك لكان هذا يستلزم جعل الطلاق بغير عدد، كما كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام لم يكن للطلاق عدد‏.‏ فلو كان لفظ الفسخ أو غيره يقع ولا يحسب من الثلاث لكان ذلك يستعمل بدل لفظ الطلاق، ومعناه معني الطلاق بلا عدد‏.‏ وهذا باطل‏.‏

وإن قيل‏:‏ هو طلاق بائن، قيل‏:‏ هذا أشد بطلاناً؛ فإنه إن قيل‏:‏ إنه لا يملك إلا الطلاق الرجعي ولا يملك طلاقاً بائناً بطل هذا‏.‏ وإن قيل‏:‏ إنه يملك إيقاع طلاق بائن فلو جوز له أن يوقعه بلفظ الفسخ ولا يكون من الثلاث لزم المحذور، وهو أن يطلق المرأة كلما شاء، ولا يحسب عليه من الثلاث‏.‏ ولهذا لم يتنازع العلماء أن لفظ الخلع بلا عوض ولا سؤال لا يكون فسخاً؛ وإنما النزاع فيما إذا طلبت المرأة أن يطلقها طلقة بائنة بلا عوض‏:‏ هل تملك ذلك‏؟‏ على قولين‏.‏

/فإن العلماء تنازعوا على ثلاثة أقوال في الطلاق البائن‏.‏ فقيل‏:‏ إن شاء الزوج طلق طلاقا بائنا، وإن شاء طلق طلاقا رجعيا، بناء على أن الرجعة حق له‏.‏ وإن شاء أثبتها‏.‏ وإن شاء نفاها‏.‏ وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد‏.‏ وأظنه رواية عن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ لا يملك الطلاق البائن ابتداء، بل إذا طلبت منه الإبانة ملك ذلك، وهذا معروف عن مالك، ورواية عن أحمد اختارها الخرقي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يملك إبانتها بلا عوض، بل سواء طلبت ذلك أو لم تطلبه، ولا يملك إبانتها إلا بعوض‏.‏ وهذا مذهب أكثر فقهاء الحديث، وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه، وعليه جمهور أصحابه، وهو قول إسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، وابن خزيمة، وداود وغيرهم، وعليه أكثر النقول الثابتة عن أكثر الصحابة، وعلى هذا القول يدل الكتاب والسنة، فإن الله لم يجعل الطلاق إلا رجعيا، وليس في كتاب الله طلاق بائن من الثلاث، إلا بعوض، لا بغير عوض، بل كل فرقة تكون بائنة فليست من الثلاث‏.‏

وأيضًا، فإن الخلع والطلاق يصح بغير اللفظ العربي باتفاق الأئمة، ومعلوم أنه ليس في لغة العجم لفظ يفرق مع العوض بين ما هو خلع وما هو طلاق ليس بخلع، وإنما يفرق بينهما ما يختص بالخلع من دخول العوض فيه وطلب المرأة الفرقة‏.‏ فلفظ الطلاق يضاف إلى غير المرأة،كقولهم‏:‏ طلقت الدنيا، وطلقت ودك‏.‏وإذا أضيف إلى المرأة فقد يراد به الطلاق من غير الزوج،كما تقول أنت‏:‏طالق من وثاق، أو طالق من الهموم والأحزان/ ولو وصل لفظ الطلاق بذلك لم يقع به بلا ريب، وإن نواه ولم يصله بلفظ دين، وفي قبوله في الحكم نزاع‏.‏

فإذا وصل لفظ الطلاق بقوله‏:‏ أنت طالق بألف‏.‏ فقالت‏:‏ قبلت‏.‏ أو قالت‏:‏ طلقني بألف‏.‏ فقال‏:‏ طلقتك‏.‏ كان هذا طلاقا مقيداً بالعوض، ولم يكن هو الطلاق المطلق في كتاب الله، فإن ذلك جعله الله رجعياً، وجعل فيه تربص ثلاثة قروء، وجعله ثلاثا‏.‏ فأثبت له ثلاثة أحكام‏.‏ وهذا ليس برجعي بدلالة النص والإجماع، ولا تتربص فيه المرأة ثلاثة قروء بالسنة فلذلك يجب ألا يجعل من الثلاث، وذلك لأن هذا لا يدخل في مسمي الطلاق عند الإطلاق، وإنما يعبر عنه بلفظ الطلاق مع قيد كما يسمي الحلف بالنذر نذر اللجاج والغضب فيسمي نذراً مقيداً؛ لأن لفظه لفظ النذر، وهو في الحقيقة من الأيمان؛ لا من النذور عند الصحابة، وجمهور السلف، والشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏

وكذلك لفظ الماء عند الإطلاق لا يتناول المني، وإن كان يسمي ماء مع التقييد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏6، 7‏]‏‏.‏

وكذلك لفظ الخف لا يتناول عند الإطلاق المقطوع، وإن كان يقال خف مقطوع‏.‏ فلا يدخل المقطوع في لفظ المسح على الخفين، / ولا فيما نهى عنه المحرم من لبس الخف على الأصح من أقوال العلماء، فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أولاً بقطع الخفين؛ لأن المقطوع ليس بخف، ثم رخص في عرفات في لبس السراويل ولبس الخفاف، ولم يشترط فتق السراويل، ولا قطع الخفاف‏.‏ والسراويل المفتوق، والخف المقطوع، لا يدخل في مسمي الخف والسراويل عند الإطلاق‏.‏

وكذلك لفظ البيع المطلق لا يتناول بيع الخمر والميتة والخنزير، وإن كان يسمي بيعاً مع التقييد‏.‏

وكذلك الإيمان عند الإطلاق إنما يتناول الإيمان بالله ورسوله، وأما مع التقييد فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏، لا يدخل في مطلق الإيمان‏.‏

وكذلك لفظ البشارة عند الإطلاق إنما تناول الإخبار بما يسر، وأما مع التقييد فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ إليمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وأمثال ذلك كثيرة‏.‏

فالطلاق المطلق في كتاب الله يتناول الطلاق الذي يوقعه الزوج بغير عوض فتثبت له فيه الرجعة، وما كان بعوض فلا رجعة له فيه، وليس من الطلاق المطلق؛ وإنما هو فداء تفتدي به المرأة نفسها من زوجها / كما تفتدي الأسيرة نفسها من أسرها، وهذا الفداء ليس من الطلاق الثلاث سواء وقع بلفظ الخلع، أو الفسخ، أو الفداء، والسراح، أو الفراق، أو الطلاق، أو الإبانة، أو غير ذلك من الألفاظ‏.‏

ولهذا جاز عند الأئمة الأربعة والجمهور من الأجنبي، فيجوز للأجنبي أن يختلعها، كما يجوز أن يفتدي الأسيرة، كما يجوز أن يبذل الأجنبي لسيد العبد عوضاً ليعتقه، ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشرطا بما إذا كان قصده تخليصها من رق الزوج، لمصلحتها في ذلك، كما يفتدي الأسير‏.‏ وفي مذهب الشافعي وأحمد وجه أنه إذا قيل‏:‏ إنه فسخ، لم يصح من الأجنبي‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه حينئذ يكون إقالة، والإقالة لا تصح مع الأجنبي‏.‏ وهذا الذي ذكره أبو المعالى وغيره من أهل الطريقة الخراسانية‏.‏ والصحيح في المذهبين أنه على القول بأنه فسخ هو فسح، وإن كان من الأجنبي، كما صرح بذلك من صرح به من فقهاء المذهبين، وإن كان صاحب شرح الوجيز لم يذكر ذلك، فقد ذكره أئمة العراقيين، كأبي إسحق الشيرازي في خلافه وغيره‏.‏ وهذا لأنهم جعلوه كافتداء الأسير، وكالبذل لإعتاق العبد، لا كالإقالة؛ فإن المقصود به رفع ملك الزوج عن رق المرأة لتعود خالصة من رقه، ليس المقصود منه نقل ملك إليها، فهو شبيه بإعتاق العبد، وفك الأسير، لا بالإقالة في البيع؛ فلهذا يجوز باتفاق الأئمة بدون الصداق المسمي، وجوزه الأكثرون بأكثر من الصدقات، ويجوز ـ أيضًا ـ بغير جنس الصداق، وليست الإقالة كذلك، بل / الإقالة المقصود بها تراد العوض‏.‏ وإذا كرهنا أو حرمنا أخذ زيادة على صداقها فهذا لأن العوض المطلق في خروجها من ملك الزوج هو المسمي في النكاح فإن البضع لا يباع ولا يوهب ولا يورث كما يباع المال ويوهب ويورث، وكما تؤجر المنافع وتعار وتورث والتجارة والإجارة جائزة في الأموال بالنص والإجماع‏.‏

وأما التجارة المجردة في المنافع‏:‏ مثل أن يستأجر داراً ويؤجرها بأكثر من الأجرة من غير عمل يحدثه، ففيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد أشهرهما عنه‏:‏ يجوز، وهو قول أكثر العلماء، كمالك والشافعي‏.‏ والثاني‏:‏ لا يجوز كقول أبي حنيفة‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه يدخل في ربح مالم يضمن‏.‏ والأول أصح؛ لأن هذه المنافع مضمونة على المستأجر، بمعني أنه إذا سلم إليه العين المؤجرة ولم ينتفع بالعين تلفت على ملكه، بخلاف ما إذا تلفت العين المؤجرة، فإن هذا بمنزلة تلف الثمر قبل صلاحه‏.‏

والمقصود هنا أن المنافع التي تورث قد تنوزع في جواز التجارة فيها، فكيف بالأبضاع التي لا توهب ولا تورث بالنص والإجماع، وإنما كان أهل الجاهلية يرثون الأبضاع، فأبطل الله ذلك‏.‏ فلو أراد الزوج أن يفارق المرأة ويزوجها بغيره ليأخذ صداقها لم يملك ذلك‏.‏ ولو وطئت بشبهة لكان المهر لها دونه، فلهذا نهي عن الزيادة‏.‏ وإذا شبه الخلع بالإقالة، فالإقالة في كل عقد بحسبه‏.‏ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

/وهذا القول الذي ذكرناه من أن الخلع فسخ تبين به المرأة بأي لفظ كان هو الصحيح الذي عليه تدل النصوص والأصول‏.‏ وعلى هذا فإذا فارق المرأة بالعوض عدة مرات كان له أن يتزوجها، سواء كان بلفظ الطلاق أو غيره‏.‏وإذا قيل‏:‏ الطلاق صريح في إحدى الثلاث فلا يكون كناية في الخلع‏.‏ قيل‏:‏ إنما الصريح اللفظ المطلق‏.‏فأما المقيد بقيد يخرجه عن ذلك، فهو صريح في حكم المقيد، كما إذا قال‏:‏ أنت طالق من وثاق، أو من الهموم والأحزان، فإن هذا صريح في ذلك، لا في الطلاق من النكاح‏.‏وإذا قال‏:‏ أنت طالق بألف‏.‏ فقالت‏:‏ قبلت، فهو مقيد بالعوض‏.‏ وهو صريح في الخلع، لا يحتمل أن يكون من الثلاث البتة، فإذا نوى أن يكون من الثلاث فقد نوى باللفظ مالا يحتمله، كما لو نوى بالخلع أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره‏.‏ فنيته هذا الحكم باطل، كذلك نيته أن يكون من الثلاث باطل، وكذلك لو نوى بالظهار الطلاق، أو نوى بالإيلاء الطلاق مؤجلا، مع أن أهل الجاهلية كانوا يعدون الظهار طلاقا، والإيلاء طلاقا، فأبطل الله ورسوله ذلك، وحكم في الإيلاء بأن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، مع تربص أربعة أشهر‏.‏ وحكم في الظهار بأنه إذا عاد كما قال، كفر قبل المماسة، ولا يقع به الطلاق‏.‏

ولهذا كان من جعل الإيلاء طلاقا مؤجلا، أو جعل التحريم الذي في معني الظهار طلاقا، قوله مرجوح، فيه شبه لما كانوا عليه أولاً، بخلاف من / فرق بين حقيقة الظهار، وحقيقة الإيلاء، وحقيقة الطلاق، فإن هذا علم حدود ما أنزل الله على رسوله، فلم يدخل في الحدود ما ليس منه، ولم يخرج منه ما هو فيه‏.‏

وكذلك الافتداء له حقيقة يباين بها معني الطلاق الثلاث‏:‏ فلا يجوز أن يدخل حقيقة الطلاق في حقيقة الافتداء، ولا حقيقة الافتداء في حقيقة الطلاق، وإن عبر عن أحدهما بلفظ الآخر، أو نوى بأحدهما حكم الآخر، فهو كما إذا نوى بالطلقة الواحدة، أو الخلع‏:‏ أن تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره‏.‏ فنية هذا الحكم باطل، وكذلك نيته أن تكون من الثلاث باطل، فإن الله لم يحرمها حتى تنكح زوجاً غيره إلا بعد الطلقة الثالثة فمن نوى هذا الحكم بغير هذا الطلاق فقد قصد ما يناقض حكم الله ورسوله، كذلك من نوى بالفرقة البائنة أن الفرقة نقص بعض من الثلاث فقد قصد ما يناقض حكم الله ورسوله، وليس له ذلك‏.‏ وإذا كان قصد هذا أو هذا لجهله بحكم الله ورسوله كان كما لو قصد بسائر العقود ما يخالف حكم الله ورسوله، فيكون جاهلا بالسنة، فيرد إلى السنة، كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ ردوا الجهالات إلى السنة‏.‏ وكما قال طائفة من السلف فيمن طلق ثلاثا بكلمة‏:‏ هو جاهل بالسنة، فيرد إلى السنة‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم للمخالع‏:‏ ‏(‏وطلقها تطليقة‏)‏ إذن له في الطلقة الواحدة بعوض، ونهى له عن الزيادة‏.‏

كما قد بين دلالة الكتاب والسنة على أن الطلاق السنة أن يطلق طلقة واحدة، ثم يراجعها، أو يدعها حتى تنقضي عدتها، وأنه متى طلقها / ثنتين أو ثلاثا قبل رجعة أو عقد جديد، فهو طلاق بدعة، محرم عند جمهور السلف والخلف، كما هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد في آخر قوليه، واختيار أكثر أصحابه‏.‏ وهل يقع الطلاق المحرم‏؟‏ فيه نزاع بين السلف والخلف، كما قد بسط في موضعه‏.‏ وذكر ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، وزمان أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر، فلما تتابع الناس على ذلك قال عمر‏:‏ إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو نفذناه عليهم، فأنفذه عليهم‏.‏ وقد تكلمنا على هذا الحديث وعلى كلام الناس فيه بما هو مبسوط في موضعه‏.‏

وذكرنا الحديث الآخر الذي يوافقه الذي رواه الإمام أحمد وغيره من حديث محمد بن إسحق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فلما أتي النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏في مجلس أم مجالس‏)‏ قال‏:‏ بل في مجلس واحد، فردها عليه‏.‏ وقد أثبت هذا الحديث أحمد بن حنبل، وبين أنه أصح من رواية من روي في حديث ركانة‏.‏ أنه طلقها البتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استحلفه‏:‏ ‏(‏ما أردت إلا واحدة‏)‏ قال‏:‏ ما أردت إلا واحدة، فردها عليه‏.‏فإن رواة هذا مجاهيل الصفات لا يعرف عدلهم وحفظهم، ولهذا ضعف أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم / من أئمة الحديث حديثهم، بخلاف حديث الثلاث فإن إسناده جيد، وهو من رواية ابن عباس موافق لحديثه الذي في الصحيح، والذين رواه علماء فقهاء وقد عملوا بموجبه، كما أفتي طاووس، وعكرمة، وابن إسحق‏:‏ أن الثلاث واحدة‏.‏ وقد قال من قال منهم‏:‏ هذا أخطأ السنة، فيرد إلى السنة‏.‏ وما ذكره أبو داود في سننه من تقديم رواية البتة، فإنما ذاك لأنه لم يذكر حديث داود بن الحصين هذا عن عكرمة عن ابن عباس، وإنما ذكر طريقاً آخر عن عكرمة من رواية مجهول‏.‏ فقدم رواية مجهول على مجهول‏.‏ وأما رواية داود بن الحصين هذه، فهي مقدمة على تلك باتفاق أهل المعرفة، ولكن هذه الطريق لم تبلغ أكثر العلماء، كما أن حديث طاووس لا يعرفه كثير من الفقهاء، بل أكثرهم‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبين الكلام على ما نقل عن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة في الإفتاء بلزوم الثلاث‏:‏ أن ذلك كان لما أكثر الناس من فعل المحرم وأظهروه، فجعل عقوبة لهم‏.‏

وذكر كلام الناس على الإلزام بالثلاث‏:‏ هل فعله من فعله من الصحابة؛ لأنه شرع لازم من النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله عقوبة ظهور المنكر وكثرته‏؟‏ وإذا قيل‏:‏ هو عقوبة‏:‏ فهل موجبها دائم لا يرتفع أو يختلف باختلاف الأحوال‏؟‏ وبين أن هذا لا يجوز أن يكون شرعاً لازما، ولا عقوبة اجتهادية لازمة، بل غايته أنه اجتهاد سايغ مرجوح، أو عقوبة عارضة / شرعية، والعقوبة إنما تكون لمن أقدم عليها عالما بالتحريم‏.‏ فأما من لم يعلم بالتحريم، ولما علمه تاب منه‏:‏ فلا يستحق العقوبة، فلا يجوز إلزام هذا بالثلاث المجموعة، بل إنما يلزم واحدة، هذا إذا كان الطلاق بغير عوض‏.‏

فأما إذا كان بعوض فهو فدية كما تقدم، فلا يحل له أن يوقع الثلاث ـ أيضًا ـ بالعوض، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يطلق بالعوض إلا واحدة لا أكثر، كما لا يطلق بغيره إلا واحدة لا أكثر، لكن الطلاق بالعوض طلاق مقيد، هو فدية، وفرقة بائنة، ليس هو الطلاق المطلق في كتاب الله، فإن هذا هو الرجعي‏.‏ فإذا طلقها ثلاثاً مجموعة بعوض، وقيل‏:‏ إن الثلاث بلا عوض واحدة، وبالعوض فدية لا تحسب من الثلاث، كانت هذه الفرقة بفدية لا تحسب من الثلاث، وكان لهذا المفارق أن يتزوجها عقداً جديداً، ولا يحسب عليه ذلك الفراق بالعوض من الثلاث، فلا يلزمه الطلاق لكونه محرماً، والثنتان محرمة، والواحدة مباحة، ولكن تستحب الواحدة بالعوض من الثلاث؛ لأنها فدية، وليست من الطلاق الذي جعلها الله ثلاثاً، بل يجوز أن يتزوج المرأة وتكون معه على ثلاث‏.‏

وجماع الأمر أن البينونة نوعان‏:‏ البينونة الكبري وهي إيقاع البينونة الحاصلة بإيقاع الطلاق الثلاث الذي تحرم به المرأة حتى تنكح زوجا غيره‏.‏ والبينونة الصغري وهي التي تبين بها المرأة وله أن يتزوجها بعقد / جديد في العدة وبعدها‏.‏ فالخلع تحصل به البينونة الصغري، دون الكبري‏.‏ والبينونة الكبري الحاصلة بالثلاث تحصل إذا أوقع الثلاث على الوجه المباح المشروع، وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه، أو يطلقها واحدة وقد تبين حملها ويدعها حتى تنقضي العدة، ثم يتزوجها بعقد جديد‏.‏ وله أن يراجعها في العدة‏.‏ وإذا تزوجها أو ارتجعها فله أن يطلقها الثانية على الوجه المشروع‏.‏

فإذا طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة أو كلمات قبل رجعة أو عقد فهو محرم عند الجمهور، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة في المشهور عنه، بل وكذلك إذا طلقها الثلاث في أطهار قبل رجعة أو عقد، في مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه‏.‏ ولو أوقع الثلاث إيقاعا محرماً‏:‏ فهل يقع الثلاث أو واحدة‏؟‏ على قولين معروفين للسلف والخلف، كما قد بسط في موضعه‏.‏ فإذا قيل‏:‏ إنه لا يقع لم يملك البينونة الكبري بكلمة واحدة، وإذا لم يملكها لم يجز أن تبذل له العوض فيما لا يملكه، فإذا بذلت له العوض على الطلاق الثلاث المحرمة بذلت له العوض فيما يحرم عليه فعله ولا يملكه، فإذا أوقعه لم يقع منه إلا المباح، والمباح بالعوض إنما هو بالبينونة الصغري دون الكبري، بل لو طلقها ثنتين وبذلت له العوض على الفرقة بلفظ الطلاق أو غير الطلاق لم تقع الطلقة الثالثة على قولنا‏:‏ إن الفرقة بعوض فسخ تحصل به البينونة الصغري؛ فإذا فارقها بلفظ الطلاق أو غيره في هذه الصورة وقعت به البينونة الصغري وهو الفسخ / دون الكبري‏.‏ وجاز له أن يتزوج المرأة بعقد جديد، لكن إن صرحت ببذل العوض في الطلقة الثالثة المحرمة وكان مقصودها أن تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فقد بذلت العوض في غير البينونة الصغري، وهو يشبه ما إذا بذلت العوض في الخلع بشرط الرجعة‏.‏ فإن اشتراطه الرجعة في الخلع يشبه اشتراطها الطلاق المحرم لها فيه، وهو في هذه الحال بملك الطلقة الثالثة المحرمة لها، كما كان يملك قبل ذلك الطلاق الرجعي‏.‏ والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏